Monday, September 15, 2008

ومـا تِـلكْ بيمِـينك يا مُــوسى؟!


SUDANILE 15.09.08

ومـا تِـلكْ بيمِـينك يا مُــوسى؟!

فتحي الضـو


faldaw@hotmail.com

ذات أصيلٍ من أصائل نهايات العام 1997 وضمن زيارة صحفية عابرة للمناطق المحررة، كنت اتجاذب أطراف الحديث مع (الكوماندر) شول بيار نانق قائد القطاع الأوسط في الجبهة الشرقية – أي شرق السودان – وكنا نجلس على رأس ربوة رملية صغيرة أمام خيمة منصوبة في المعسكر الذي يضم قوات مشتركة، وهي القوات التي قامت بتحرير قرى ومدن وحاميات جنوب البحر الأحمر وتعلمون أنها تساقطت يومذاك كما تتساقط أوراق الخريف، وكان يُعينني في تجوالي رجل خلوق اسمه الحركي (عوض غبوش) وأسمه الأصلي (كمال قدورة) واذكره الآن مُعرَّفاً لأن البعض قد لا يعلم أنه قائد عملية (مديسيسة) في ابريل 1996 وهي أول عملية لقوات التحالف السودانية والتي دشنت بها فيما بعد الكفاح المسلح المعارض في الجبهة الشرقية، وقد حزِنت على غبوش أشد الحزن بعد أقل من عامين عندما علمت باستشهاده في عملية أخري – نسأل الله له الرحمة والمغفرة – وكان أن إنضم إلى ثلاثتنا رابع سقط أسمه من ذاكرتي قدمه لي بيار مسبوقاً بـ (الكوماندر) أيضاً، والمصطلح وفق ما يعلم البعض يشير لألقاب الحركة الشعبية العسكرية!

ولمَّا كان الحديث عن المنطقة والأوضاع المستجدة بالنسبة لمقاتلي الحركة الشعبية، أبدى رابعنا ذاك أسفاً بليغاً على الظروف التي نقلته من جنوب السودان إلى شرقه، وقال إنه رسم في مخيلته ما لا عين رأت ولا خطر على قلب قادم من الأدغال، حيث منَّى النفس مُسبقاً بحياة جديدة على شواطيء وهضاب البحر الأحمر مغايرة تماماً للحياة في الجنوب والتي زادتها الحرب ضنكاً على ضنك، ثم استدرك بسرعة مؤكداً أن الحياة التى تركها خلفه في الغابة تعد في منتهى الرفاهية، واستدل على قوله بأنه هناك إن تحركت أمعائه يُمكِنه أن يلتقط ثمراً جنياً كقطعة مانجو أو موز أو باباي تتساقط عليه دون أن يهز أشجارها، في حين أنه هنا لم يجن شيئاً غير الحصى والحجارة والحصرم، وأشار إلى (عينة) كان يتقاذفها من يد إلى أخرى، واستغرب في خاتمة حديثه المدهش - بالنسبة لي على الأقل - لماذا لم يحمل أهالي شرق السودان السلاح ويتمردوا على السلطة قبلهم؟ وفي دعابة مريرة أشار إلى لفيف من أهالي المنطقة كانوا يمرون أمامنا وقال بلهجة (عربي جوبا) المحببة «شوف بلاهي أسه ده زول ده!» وبالطبع فهو يقصد نحول جسومهم والبؤس والشقاء الذي ينضح من وجوههم، لكن ما يُدهِشك حقاً أن المتحدث هانت عليه مصيبته بعد أن رأى مصيبة غيره، فهو لم يكن ينِزُّ شحماً ولا لحماً ولا ورماً، بل لو أنك جردته من ملابسه العسكرية فلن تجد فارقاً يذكر، أما أنا الذي أبدو مدِينياً مُترفاً مقارنة بحاليهما فقد أدركت في تلك اللحظة لماذا أضمر سيدنا علي (كرّم الله وجهه) شراً للفقر (التهميش) وتمني قتله!

عند مرورنا – غبوش وأنا - على الموقع الذي يضم مقاتلو مؤتمر البجا سألته همساً عن أحد الذين يجلسون قبالتنا وعيناه لا تستقران على شيء، يُوحي لناظره أن ثمة أشياء تصطرع في دواخله وتجعله مستسلماً لقلق لا يجد ما يُعبِّر به عنه سوى تلك الحركة الدائبة لعينين زائغتين تُطاردان شيئاً غير مرئي، قال لي غبوش إختصاراً «ده موسي بتاع الأمن!» وذلك بظني تعريف قادر على تقزيم أي سؤال فلم أمض معه إلى أبعد من ذلك. ثم بعد سنوات قليلة شأنه شأن كل رجال الأمن المحترمين وجد ضالته في قيادة التنظيم كله، وفي تطورات دراماتيكية أصبح بعدئذٍ رئيس جبهة الشرق، ثم لاحقاً أضحي هو السيد موسي محمد أحمد نفسه الذي يجلس الآن في القصر الجمهوري كمساعد لرئيس الجمهورية، والذي مضى عليه في هذا المنصب الرفيع قرابة العامين بموجب ما سُمي باتفاق أسمرا، ولكن يا عزيزي القارىء إن أردت أن تعرف طلاسماً تقف من وراء العصاة التي حملها موسى بيمينه ونقلته من موقع إلى آخر حتى استقر في القصر الجمهوري فأنا أحيلك بثواب أرتجيه إلى أجمل ما كُتب في الأدب السياسي عن تلك الفترة الثرَّة من حياة الثوار، حيث تجدها في مدونة (بلوقر) زميلنا البجاوي محمد عثمان ابراهيم الذي تمتعنا بمشاهدته وأنسه وصفاء ذهنه في تلك الحقبة النضالية، وهو ممن وهبوا بعض سنوات عمرهم لهذا التنظيم، وأشهد أنه توسد الليل والجبال و(شِدَّة) بلاستيكية...قد لا يخالجني أدنى شك في أنه حملها معه ليجتر بها ذكرى تلك الأيام بعد أن قذفت به الأقدار في قارة أخري!

على يسار السيد موسى يجلس الآن فى ذات القصر الذي بناه غردون السيدة الدكتورة آمنه ضرار مستشارة رئيس الجمهورية بموجب نفس الاتفاقية الموقعة في أسمرا، لم نتشرف بمعرفة المستشارة فهي يومذاك لم تكن ضمن الوجوه الكالحة التي رأيناها في تلك المعسكرات، بل معلوماتي المتواضعة عنها تقول إنها أسست فرعاً لمؤتمر البجا داخل السودان مهمته نبذ ما أسمته بالعنف والتبرؤ تلقائياً من الكفاح المسلح، ولهذا فهي تُصدِّر بياناتها التى تهطل على الناس الآن بآيات قرآنية ولا تجرؤ على تزويقها بما درج عليه البعض، مثل قولهم (مسيرتنا التي ناضلنا من أجلها طويلاً وقدمنا فيها أرتالاً من الشهداء) في حين أن موسى يرى في الشهداء حقاً مشروعاً لتزيين بياناته بهم باعتبارهم رفاق مسيرة إنتاشتهم الأقدار منتصف الطريق، وأظنه يدَّخر الآيات القرآنية لمعركة فاصلة، بيد أن الذي أرهقني في متابعة شئون وشجون الرفيقين المتشاكسين (وفق مصطلحات شريكا نيفاشا) أن نقطة الخلاف بينهما تقول باختصار إن الدكتورة آمنه تعتبر جبهة الشرق (حزباً) في حين أن موسى يقول عنها أنها (جبهة) واعتقد أن لأهل السودان مثلاً يضربونه في مثل هذه الحالات يعِفُّ قلمي عن ذكره، فهل سألوا أنفسهم ببساطة: أين يقع إنسان الشرق الذي فتكت به المجاعة والأمراض والجهل من كل هذا؟

لقد تابعت مسيرة هذا التنظيم بدايات تسعينات القرن الماضي، عندما كان واعداً جاء في قيادته يومذاك إخوة التمسنا فيهم إخلاصاً لقضيتهم أذكر منهم محمد طاهر أبوبكر أول رئيس للتنظيم، وحسين ولي أركاب ومحمد موسى وعم عمر الشيخ السبعيني المثابر ومحمد طاهر وابراهيم آداب وسليمان أونور والأخيران لم يحملا السلاح ولكن بذلا جهداً مقدراً في سبيل تأسيس بدايات الانطلاق، وثمة آخرين تسربوا من الذاكرة المعطوبة يزيد من قدرهم أنهم قاموا بأدوار فاعلة وجميعهم تفرقت بهم السبل ولا ندري أين هموا الآن، ومن نكد الدنيا على مؤتمر البجا أنه كان وما يزال مطمع العيون الزائغة، ففي بداياته وبحكم قواسم التهميش كان محط عين الحركة الشعبية عندما قدمت إلى تلك المنطقة وفرَّغت له صديقنا (محمد سعيد بازرعة) أحد كوادرها القيادية ظناً منها أن هويته المزدوجة بين الحركة والمنطقة قد تقرِّب المسافات، وعندما كلَّ متن الحركة الشعبية تسلمته حامدة شاكرة الجبهة الشعبية الاريترية بدعوي القواسم القبلية، وعندما قضت منه وطرها فيما سمى باتفاق الشرق سلمته عدوها اللدود المسمي بالمؤتمر الوطني، والذي قام بدوره بوضع موسي على يمينه وآمنه على يساره، ومن فرط (وطنيته) أصبح وسيطاً بينهما كلما حمي وطيس معاركهما، ومن فرط (براءتهم) أصبحوا لا يعلمون أنه مُشعِّلها من وراء الكواليس!

إن المعارك المحتدمة الآن بين الدكتورة آمنه ضرار والسيد موسى محمد أحمد تعد عملاً إنصرافياً مخجلاً، والمفارقة انهما إستمرا في هذه المسرحية السمجة والمتطاولة في حين أن السودانيين بصورة عامة وجماهير الشرق بصورة خاصة كادت أن تتغاضي عن ماضيهما الذي لا يؤهلهما للجلوس على الكراسي التي يجلسون عليها الآن، ليس لأن الناس لا تريد فتح هذه الملفات ولكن لأنهم – أي الناس - ضجروا وتطلعوا ولو للقليل الذي يسد رمق الجوعي ويداوي المرضى ويوفر مقعد دراسة لزغب حواصل يفترشون الأرض، وعليه نعتقد أن ما يُسمي باتفاقية الشرق بالنسبة لقطاع كبير من الوطنيين السودانيين ما هي إلا تلك الملايين التي اقرتها، ويرجى أن تُقتطع من الخزينة العامة، كحد أدنى من الحقوق ونصيب قليل لإنسان الشرق في ثروة لا يعلم أسرارها سوى سدنتها من رواد المؤتمر الوطني، كما أننا لن نُحمِّل آمنة ولا موسى فوق طاقتيهما ونسألهما عن قضية التحول الديمقراطي ولا عن الحريات المؤودة ولا الاتفاقيات التي تدور حول نفسها ولا الفساد والمفسدين الذين يمدون ألسنتهم ساخرين، لن نسألهما عن شيء يمكن أن يعده البعض ترفاً بالنظر لقضايا المهمشين في أصقاع وبوادي وقرى الشرق، اولئك البؤساء الذين يرنون للأفق في انتظار الذي يأتي ولن يأتي! وليت الرفاق يغادران قصور الخرطوم للاقامة وسط أولئك المكلومين وتسخيير تلك الملاييين لتنميتهم ومشاركتهم أحزانهم السرمدية!

آخر فصول هذه الملهاة كان السيد موسى وجماعته قد عقدوا مؤتمراً للتنظيم سمى بمؤتمر أركويت، قاطعته الدكتورة آمنة وبعض مناصريها وأصدرت بياناً بصفتها الأمين العام جمدت فيه نشاط موسى رئيس التنظيم وآخرين، فوجدها المؤتمرون فرصة في فصلها هي والذين شاركوا في قرار التجميد وتواصلت (المعارك). في الاسبوع الماضي دعت ضرار لإجتماع اللجنة المركزية (أعلى هيئة) واستجاب البعض للدعوة والتأم شملهم في مباني (منظمة الدعوة الاسلامية) وأثناء اجتماعهم أصدر موسى بياناً يوم 5/9/2008 ذيَّله بصفتيه الأثنتين، رئيس جبهة الشرق ومساعد رئيس الجمهورية، وفيه نزع عن المجتمعين شرعيتهم التي زعموها وقال إن «الدعوة لهذا الاجتماع باطلة وتفتقد أي مبرر موضوعي أو قانوني» وأكد أن الدكتورة آمنة ضرار «وضعت نفسها خارج شرعية جبهة شرق السودان نتيجة لهذا السلوك الانقسامي» وأضاف البيان «التزامه بالحفاظ على جبهة الشرق كتحالف واسع يضم مؤتمر البجا والأسود الحرة وكيان الشمال باعتبار أنها جبهة واسعة وليست حزباً سياسياً» ولم ينس البيان أن يضع الخاتمة المعروفة بالتأكيد على الشراكة مع المؤتمر الوطني لانفاذ الاتفاق والالتزام بقضايا أهل الشرق!

وفي اليوم التالي مباشرة 6/9/2008 أصدرت مجموعة آمنة ضرار التى اجتمعت تحت مسمي اللجنة المركزية بياناً ابتدروه بلغة ثورية «إن الجبهة وهي تضطع بدورها الوطني في هذا المنعطف الذي تمر به بلادنا وإزاء تكالب قوى البغي والعدوان» لهذا فقد «آلت على نفسها أن تمثل حجر الزاوية في كل ما من شأنه أن يحفظ لهذا الوطن وحدته وشموخه» وبناءاً عليه أصدروا جملة قرارات أهمها «التمسك بجبهة شرق السودان كحزب سياسي وخيار استراتيجي أوحد يتم الانتماء اليه بالصفة الفردية» والمفارقة أنه تمّ «التأمين على قيام المؤتمر العام لحزب جبهة شرق السودان في الخامس والعشرين من ديسمبر 2008 بحاضرة ولاية كسلا على أن يتم اختيار لجنة تحضيرية للمؤتمر العام بواسطة اللجنة المفوضة» الغريب في الأمر كذلك أن هذه المجموعة لا تستحي أن تعلن جهلها على الملأ وهي (تجمع بين الأختين) فهي لا تُفرِّق بين كيانين سياسيين مختلفين، فالجبهة كما هو معروف عبارة عن مجموعة أحزاب أو تنظيمات تواضعت على التحالف في كيان واحد بإتفاق الحد الأدني، أي وحدَّت برامجها المختلفة في برنامج واحد اتفقت عليه، في حين أن الحزب هو كيان تنظيمي ببرنامج واحد متفق عليه ومجاز من قبل مجموعة من البشر يطلق عليهم لفظ العضوية لهم من الحقوق مثلما عليهم من الواجبات!

على كلٍ إذا وصلت الأمور لنقطة خيار الصفر كما هي الآن بين الطرفين المتشاكسين (آمنة وموسي) فالحكماء يقولون إن الحل واحد لا اظن أن ذكاء الطرفين يمكن أن يخذلهما في استنباط ماهيته، ولكني عوضاً عن التبرع به في هذه المساحة...أسمح لي يا عزيزي القارىء الصابر مثلنا والموجوع أكثر مِنَّا بمقترح شامل تواجه به هذه المصائب التي تتقاطر عليك دون هوادة، ما رأئك لو رحلنا نحن جميعنا، أي السودانيون المقدر عددهم عشوائياً بأربعين مليون نسمة ونترك هذا الوطن المغلوب على أمره والمسمي السودان للشريكين المتربصان ببعضهما البعض والحركات المتناسلة شرقاً وغرباًً، وللمنتظرين دورهم من المعارضين المشاركون باستيحاء وغير المشاركين، وطالما أنهم يتحدثون جميعاً بإسمنا سنري بعدئذ بإسم من سيتحدثون؟!

No comments: